فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الفراء أيضًا والقفال اللام صلة، أي زائدة، والمعنى: يدعو من ضرّه أقرب من نفعه، أي يعبده، وهكذا في قراءة عبد الله بن مسعود بحذف اللام، وتكون اللام في: {لبئس المولى} وفي: {لبئس العشير} على هذا موطئة للقسم.
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} لما فرغ من ذكر حال المشركين، ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة، وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات المتصفة بهذه الصفة، وقد تقدّم الكلام في جري الأنهار من تحت الجنات، وبيّنا أنه إن أريد بها الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر؛ وإن أريد بها الأرض فلابد من تقدير مضاف، أي من تحت أشجارها {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} هذه الجملة تعليل لما قبلها، أي يفعل ما يريده من الأفعال {لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ}.
فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء.
{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله في الدنيا والآخرة} قال النحاس: من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} وحيلته {مَا يَغِيظُ} من نصر النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظًا، ثم فسره بقوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} أي فليشدد حبلًا في سقف بيته {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقًا، والمعنى: فليختنق غيظًا حتى يموت، فإن الله ناصره ومظهره، ولا ينفعه غيظه، ومعنى {فلينظر هل يذهبن كيده} أي صنيعه وحيلته ما يغيظ، أي غيظه، وما مصدرية.
وقيل: إن الضمير في: {ينصره} يعود إلى من، والمعنى: من كان يظنّ أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه، وبه قال أبو عبيدة.
وقيل: إن الضمير يعود إلى الدين، أي من كان يظنّ أن لن ينصر الله دينه.
وقرأ الكوفيون بإسكان اللام في {ثم ليقطع}. قال النحاس: وهذه القراءة بعيدة من العربية.
{وكذلك أنزلناه ءايات بينات} أي: مثل ذلك الإنزال البديع أنزلناه آيات واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها {وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ} هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهديا من قبل.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال: لاوي عنقه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس والسديّ وابن يزيد وابن جريج أنه المعرض.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال: أنزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: هو رجل من بني عبد الدار.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال: مستكبرًا في نفسه.
وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلامًا وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه بسند صحيح قال: كان ناس من الإعراب يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم، فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضًا نحوه، وفي إسناده العوفي.
وأخرج ابن مردويه أيضًا من طريقه أيضًا عن أبي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم بالإسلام، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني أقلني، قال: «إن الإسلام لا يقال». فقال: لم أصب من ديني هذا خيرًا، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال: «يا يهوديّ، الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة»، فنزلت {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ}.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله} قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله محمدًا في الدنيا والآخرة {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} قال: فليربط بحبل {إِلَى السماء} قال: إلى سماء بيته السقف {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} قال: ثم يختنق به حتى يموت.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله} يقول: أن لن يرزقه الله {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} فليأخذ حبلًا فليربطه في سماء بيته فليختنق به {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}.
قال: فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء}.
قوله: {مَن كَانَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً. وقوله: {فَلْيَمْدُدْ} إمَا جزاءٌ للشرط أو خبرٌ للموصولِ، والفاءُ للتشبيه بالشرطِ.
والجمهورُ على كسرِ اللام مِنْ لِيَقْطَعْ وسَكَّنها بعضُهم، كما سَكَّنها بعد الفاءِ والواوِ لكونِهنَّ عواطفَ. وكذلك أَجْرَوْا ثم مُجْراهما في تَسكينِ هاء هو وهي بعدها، وهي قراءة الكسائي ونافعٍ في رواية قالون عنه.
قوله: {هَلْ يُذْهِبَنَّ} الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّ النظرَ يُعَلَّقُ بالاستفهام، وإذا كان بمعنى الفكر تَعَدَّى بـ: في. وقوله: {مَا يَغِيظُ} ما موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ هو الضميرُ المسستر. وما وصلتُها مفعولٌ بقوله: {يُذْهِبَنَّ} أي: هل يُذْهِبَنَّ كيدُه الشيءَ الذي يَغِيْظُه. فالمرفوعُ في يَغيظه عائدٌ على الذي، والمنصوبُ على مَنْ كان يظن.
وقال الشيخ: وما في {ما يَغيظ} بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أو مصدريةٌ. قلت: كلا هذين القولينِ لا يَصِحُّ. أمَا قوله: العائدُ محذوفٌ فليس كذلك، بل هو مضمرٌ مستترٌ في حكم الموجودِ كما تقدَّم تقريرُه قبلَ ذلك وإنما يُقال محذوفٌ فيما كان منصوبَ المحلِّ أو مجرورَه. وأمَا قوله: أو مصدريةٌ فليس كذلك أيضًا؛ إذ لو كانت مصدريةً لكانت حَرْفًا على الصحيح، وإذا كانَتْ حرفًا لم يَعُدْ عليها ضميرٌ، وإذا لم يَعُدْ عليها ضميرٌ بقي الفعل بلا فاعلٍ. فإن قلتَ: أُضْمِرُ في {يَغيظ} ضميرًا فاعلًا يعود على مَنْ كان يظنُّ. فالجواب: أنَّ مَنْ كان يظنُّ، في المعنى مَغِيظٌ لا غائظٌ، وهذا بحثٌ حسنٌ فتأمَّلْه.
والضمير في {يَنْصُرَه} الظاهرُ عَوْدُه على من وفُسِّر النصرُ بالرزقِ. وقيل: يعودُ على الدينِ والإِسلامِ فالنصرُ على بابه.
قوله: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ}: الكافُ: إمَا حالٌ من ضميرِ المصدرِ المقدرِ، وإمَا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلاف أي: ومثلَ ذلك الإِنزالِ أنْزَلْنا القرآن كله آياتٍ بيناتٍ. فـ: {آياتٍ} حالٌ.
قوله: {وَأَنَّ الله يَهْدِي} يجوز في أن ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّها منصوبةٌ المحلِّ عَطْفًا على مفعولِ {أَنْزَلْناه} أي: وأنزَلْنا أنَّ الله يَهْدِي مَنْ يريد. أي: أَنْزَلْنا هداية اللهِ لمن يريدُ هدايتَه. الثاني: أنها على حَذْف حرفِ الجر، وذلك الحرفُ متعلق بمحذوف. والتقديرُ: ولأنَّ اللهَ يهدِي مَنْ يريدُ أَنْزَلناه، فيجيءُ في موضعها القولان المشهوران: أفي محلِّ نَصْبٍ هي أم جر. وإلى هذا ذهب الزمخشريُّ وقال في تقدِيره: ولأنَّ الله يهديْ به الذي يعلمُ أنهم يؤمنونَ أنزله كذلك مبيَّنًا. الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ خبرًا لمبتدأ مضمر، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله يهدِي مَنْ يريد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)}.
{الَّذِينَ ءَامَنُواْ}: أي صَدَّقُوا ثم حقَّقُوا؛ فالإيمانُ ظاهِرُه التصديق وباطنه التحقيق، ولا يصل العبد إليهما إلا بالتوفيق.
ويقال الإيمان انتسام الحق في السِّرِّ.
ويقال الإيمان ما يوجب الأمان، ففي الحال يجب الإيمان وفي المآل يوجب الأمان، فمُعَجَّلُ الإيمان من المسلمين، مؤجَّلُه الخلاصُ من صحبة الكافرين الفاسقين.
قوله: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}: العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويصلح للثواب، وهو أن يكون على الوجه الذي تعلَّق به الإيمان.
والجنان التي يدخل المؤمنين فيها مؤجلة ومعجلة، فالمُؤَجَّلَة ثواب وتوبة، والمعَجَّلةُ احوالٌ وقربة، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} أي أنَّ الحقَّ- سبحانه- يرغم اعداءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ لم تَطبْ نفْسُه بشهود تخصيص الله سبحانه بما أفرده به فليقتلْ نَفْسَه من الغيظ خَنْقًا، ثم لا ينفعه ذلك كما قيل:
إنْ كنتَ لا ترضى بما قد ترى ** فدونَكَ الحَبْلَ به فاخْنق

{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}.
{ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ}: أي دلالات وعلامات نَصبَهَا الحقُّ سبحانه لعباده، فمن الآيات ماهو قضية العقل، ومنها ما هو قضية الخبر والنقل، ومنها ماهو تعريفات في أوقات المعاملات فما يجده العبد في حالاته من انغلاقٍِ، واشتداد قبضٍ، وحصول خسران، ووجوه امتحان.. لا شكَّ ولا مرية إذا أَخَلَّ بواجبٍ أو ألَمَّ بمحظور. أو تكون زيادة بَسْطٍ أو حلاوة طاعة، او تيسير عسيرٍ من الأمور، أو تجدد إنعامٍ عند حصول شيءٍ من طاعاته.
ثم قد يكون آيات في الاسرار، هي خطابُ الحقِّ ومحادثةٌ معه، كما في الخبر: «لقد كان في الأمم مُحَدَّثون فإن يك في أمتي فعمر».
ثم يقال الآيات ظاهرِةٌ، والحجج زاهرة، ولَكِن الشأن فيمن يستبصر. اهـ.

.تفسير الآية رقم (17):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ذلك موجبًا للسؤال، عن حال الفريقين: المهدي والضال، أجاب عن ذلك ببيان جميع فرق الضلال، لأن لهذه السورة أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويرًا لذلك اليوم بأليق صورة، وقرن بكل من فريقي أهل الكتاب موافقة في معناه فقال: {إن الذين ءامنوا} أي من أيّ فرقة كانوا، وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان، الذي هو أدنى وجوه الإيمان {والذين هادوا} أي انتحلوا اليهودية، على أيّ حال كانوا من إيمان أو كفران.
ولما كان اليهود عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم كما مضى في المائدة، أتبعهم من شابهوه فقال: {والصابئين} ثم تلا بثاني فريقي أهل الكتاب فقال: {والنصارى} ثم أتبعهم من أشبهه بعض فرقهم في قولهم بإلهين اثنين فقال: {والمجوس} وهم عبدة النار؛ ثم ختم بأعم الكل في الضلال كما فتح بأعمهم في الهدى فقال: {والذين أشركوا} لشموله كل شرك حتى الأصغر من الربا وغيره {إن الله} أي الملك الأعظم الذي له الملك كله وهو أحكم الحاكمين {يفصل بينهم يوم القيامة} فيجازي كلًا بعمله على ما يقتضيه في مجاري عاداتكم، ويقتص لبعضهم من بعض، ويميز الخبيث منهم من الطيب؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال {على كل شيء} من الأشياء كلها {شهيد} فلا شيء إلا وهو به عليم، فهو لذلك على كل شيء قدير، كما مضى بيانه في {وسع كل شيء علمًا} [طه: 98] في طه، وقال الحرالي في شرح الأسماء الحسنى: الشهادة رؤية خبرة بطية الشيء ودخلته ممن له غنى في أمره، فلا شهادة إلا بخبرة وغنى ممن له اعتدال في نفسه بأن لا يحيف على غيره، فيكون ميزان عدل بينه وبين غيره، فيحق له أن يكون ميزانًا بين كل متداعيين ممن يحيط بخبرة أمرهما {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} [البقرة: 143] وبحسب إحاطة علم الشهيد ترهب شهادته، ولذلك أرهب شهادة شهادة الله على خلقه {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} [الأنعام: 19] ولما كان أيّما الإحاطة والخبرة والرقبة لله كان بالحقيقة لا شهيد إلا هو- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى}.
القراءة: قرى {حَقّ} بالضم وقرئ حقًّا أي حق عليه العذاب حقًّا وقرئ {مُّكْرِمٍ} بفتح الراء بمعنى الإكرام، واعلم أنه تعالى لما قال: {وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} [الحج: 16] أتبعه في هذه الآية ببيان من يهديه ومن لا يهديه، واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة: أحدها: الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها.
وثانيها: الذين يخالفونه في النبوة ولَكِن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى وموسى عليهما السلام.
وثالثها: الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق، والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم، والفلاسفة الذين يثبتون مؤثرًا موجبًا لا مختارًا.
فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة، ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها.
وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العالم المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بكل يكونون مستترىن، أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار، إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء، أو لا يكونوا معترفين بذلك، فإما أن يكونوا أتباعًا لمن كان نبيًّا في الحقيقة أو لمن كان متنبئًا، أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون، وأما أتباع المتنبىء فهم المجوس، وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان، وهم المسمون بالمشركين، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم.
فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة.
أما قوله: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال الزجاج هذا خبر لقول الله تعالى: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ} كما تقول إن أخاك، إن الدين عليه لكثير.
قال جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ** سربال ملك به ترجى الخواتيم

المسألة الثانية:
الفصل مطلق فيحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعًا فلا يجازيهم جزاء واحدًا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد وقيل يفصل بينهم يقضي بينهم.
أما قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلّ شيء شَهِيدٌ} فالمراد أنه يفصل بينهم وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف. اهـ.